عاصفة الحزم..الخيار المرّ!
في مثل هذه اللحظات قبل ثلاثة أعوام، اتصلت بي صديقة لتعتذر عن سخريتها الفجة مني ومن القوى الوطنية التي لطالما دافعت عنها ووثقت بها، وعبرت لي انها لم تقصد أبداً التشفي بنا ونحن نتابع مشهد دخول الحوثي إلى عدن في لحظة تهدلت فيها جلودنا وتشققت وجوهنا وجحظت أعيننا من هول فاجعتنا في سقوط حاضرتنا، وهيكلنا، وأرض موعدنا وعاصمة ميعادنا، عدن، تحت أقدام الغزاة المتسخة. كنت قد خضت منذ مغرب ذلك اليوم شجاراً عنيفاً مع 4 من أصدقائي الذين كانوا يتابعون بجزع ورعب مشهد السقوط، كانت مشارط الأخبار المتواردة، تقطع أوردتهم، وتمزق أرواحهم، رفضوا تناول العشاء أو حتى شرب الشاي، ومع كل فاصل إعلاني، كان بعضهم يولول، والآخرون يغالبون دموعهم بتؤودة، هذا يجر شعره، وذاك يئن بجزع مسنداً رأسه للحائط، صرخت بتشنج، فلتسقط عدن، مرة ومرتين وعشراً، لن تقوم القيامة، ولن تباد البشرية، نحن ما زلنا نتنفس، ولو لم يحدث شيء سنقاتل، قال محمد مغلس: سنقاتل عن ماذا وقد سقطت عدن؟ قلت له: نحن لم نسقط، وإذا دعت الحاجة سنستعيدها، ومع ذلك نحن آخر من يتحدث عن الحرب، لأننا أبعد الناس عنها فكرة ومسلكاً، إلا إذا شاء لنا القدر ذلك. ظل رفاقي على تسمرهم، وجزعهم، فيما صرخت وخاصمت بفجاجة مقسما على أن لا أتكلم معهم، وذهبت للغرفة الأخرى، وحين حانت الساعة، وفيما كانت صديقتي تعتذر، حدث انفجار ضخم للغاية، اهتزت العمارة الكبيرة، واندفعت النوافذ بفعل الضغط، قلت لصديقتي لعله تفجير انتحاري في حي المطار، صرخت ببديهة ونباهة، بل طائرة فتحت حاجز الصوت وقصفت.. مع الضربة الثانية، صرخت الفتاة: هؤلاء السعوديين، يقصفونا، ذهبت إلى الغرفة الثانية مفزوعاً فلم إجد سوى صبري العزعزي ضاماً قدميه، فاتحاً عينيه مذهولاً من قوة الضربة، فتحنا التلفاز: الملك سلمان يقرر بدء عملية عسكرية في اليمن باسم عاصفة الحزم. مع تكرار الضربات وقوة اهتزاز العمارة، نزلنا مسرعين الى الدور الأرضي، هناك بدأنا نتحدث عما في أنفسنا، لا أحد سعيد بهذا، حتى وإن كنا لم ولا نرى حلاً آخر، شعرنا بمرارة ما علينا أن نتجرعه، ولم يكن لدينا ما يبرر هذه المرارة سوى استعصاء الداء على العلاج. كان بعضنا يتحدث عن السيادة والوطن والأرواح التي ستزهق، والبلد الذي سيضيع، وبلغة خطابية مارشالية، كنا نحتمل هذا الكلام بصعوبة شديدة، فلا أحد يجرؤ على رفضه، ولا نستطيع قبوله أيضاً، أولم تكن السيادة أيضاً تضيع، ونحن هنا نتحدث عن سلطة الحكومة على البلاد، وسيادة القرار الذي أصبح في يد ايران، أولم تكن الأرواح تزهق، والجيش يتداعى، والمدن والأحياء تغزى وتستباح؟! قلب محمد مغلس أوراقه، آه، بدأ يشرح لنا ما جمعه خلال وقت طويل مضى من دراسات، وكتابات، ومقالات، من الصحافة الإيرانية، يصرخ: اوه.. كم كنا أغبياء، لماذا لم تقرأ هذا في وقته، انظروا، كل ما يحدث الآن، تحدثت عنه الصحافة الإيرانية، اوه، انظروا، لقد تحدثوا عن سيطرة الجماعة على اليمن، اوه.. قاطعته: يبدو أنه لا فائدة منهم، يعني مش ممكن يموت المرء في هذه البلاد وهو رجل، عزيز النفس، مصان الكرامة؟! استمرت الضربات حتى الفجر، فيما كان مضاد الطيران المتنقل يضرب من خلف باب الحوش اتصلت بي ثلاث وسائل اعلام اذاعية، وتلفزيونية، بشكل متتال, ما رأيك بعاصفة الحزم؟ آآآ، رد فعل وارد، بسبب عدم مسؤولية مليشيات الحوثي، وجرها البلاد إلى آتون الحرب الأهلية، دون اكتراث بأحد، لا حكومة ولا قوى سياسية ولا حتى الشعب، لكن لنعتبر أن ما حدث حتى الآن كافياً، ولنعد إلى المفاوضات لتدارك الموقف.... صوتي يرن ويتردد بسبب الصدى وهدوء الليل لا يقاطعه الا مضاد الطيران خلفي. لم يتوقف الحوثيون، ولم يكن أمامنا من بد، سوى تقبل العاصفة تدريجيا، كأمر واقع لا بديل لنا عنه، ولا حماية لنا غيره، لم نكن مستعدين للحرب، ولم نفكر فيها للحظة في حياتنا كلها، وهنا أتكلم عن ثقافة المجتمع الذي عشت فيه. لكن الأنانية، والعنصرية التي واجهناها في تلك الأيام، كانت مقيتة، لدرجة أنك تشاهد أناس في صنعاء، يشتمون أناساً آخرين بمجرد سماعهم للهجتهم التعزية، وتسمع في وسائل النقل الجماعية وفي الشوارع والكافيتيريات، والمطاعم، شتم وتخوين لتعز وأبنائها ولعن وتجريح شنيع، كل هذا ونحن صامتون، رغم أننا لم نفعل شيئاً، لكننا آثرنا الصمت لأننا لم نفهم: لماذا كل هذا الحقد؟ وكيف نواجهه ونحن لا نطيق أن نحقد بهذه الطريقة؟ بعض الحوارات الودية، وبناء الثقة مع سائقي التكاسي، والمركبات، كانت تدفعهم للفضفضة: أنتم طيبين يا أصحاب تعز بس حمود المخلافي مجرم، قاتل، سارق..! - وعبد الملك الحوثي؟ * لا.. السيد تمام.. هو رجل تقي ويخاف الله.. ما تكونوا هكذا يا أصحاب تعز! - والجحافل اللي نزلهم الى تعز يقتلوا أهلنا ويقصفوا بيوتنا... الخ. * لا.. مابش هذا الكلام؟ - هههههه.. كان وليش نزل مقاتلين الى تعز، يشتغلوا في التعداد وإلا يقطعوا لنا بطائق؟ ولا هذولا بنادقهم معبأة صلصلة وعصير ليم ما تقتلش؟ *طيب.. ولو ما نزلوا تعز.. أين عيسيروا هؤلاء..؟ حرام عليكم، ما تشتوش أحد يعني (!!!) هو ذا انتم ملان صنعاء، قد احنا أقلية جنبكم، وما رفضناكم.. احنا كلنا يمنيين، ما بلا تبطلوا المناطقية حقكم هذه. - ذا الحين هؤلاء نزلوا معاهم ملفات توظيف وإلا يفتحوا ورش ومطاعم؟!!!! أمانة باقي شوية وتبكينا عليهم، أقل لك نزلوا يقرحوا، ويقتلوا، ويقصفوا، وينهبوا.. لا تدي لي الحالة بحقك الهدار هذا.. * الله يستر على البلاد والعباد.. والله احنا شعب طيب وكلنا أخوة.. بس هذه السعودية الملعونة لازم نتوحد ضدها. - وأين في جبهة ضد السعودية عشان تحاربها؟ كل الجبهات على بيوتنا وفوق رؤوسنا، يسحبوا مقاتلي الحوثي للحدود لو هم صدق.. بس كله ملعنة وإجرام.. وقف بس.. عندك على جنب.. * عتنزل هانا؟ - لا.. شانزل تعز.. خاطرك.
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص