"بأي ذنب قتلت "هكذا أصبحت الطفولة في تعز، بين طفل قتيل يبكيه أهله وطفل جريح فقد أحلامه وأطفئت شمعة الأمل في قلبه باكراً وبين أطفال كثر حملوا الهم والحزن ليعيشوا كشيوخ رسم الألم على ملامحهم خطوطا صعب إبعادها لهول ما رأت أعينهم .
كما لا يقتصر الألم على الأطفال فيتعاظم ألم الأم أعظم حينما ترى نفسها عاجزة أمام دموع طفلها الذي يترجاها أن تعيده كما كان، وهي التي أقسمت منذ أن حملت به أن تحميه من كل سوء قد يلم به. كيف ذلك وقد أقسمت المليشيا أن تحنث بكل قسم يصون الدموع والألم.
"المسيرة القرآنية " كما يدعون لم تكن سوى مسيرة للموت تترصد كل مظاهر الحياة في تعز الضوء والحب والسلام والتي ما زالت تشعل شموعها في مواجهة مسيرتهم الظلامية .
ملاك أيقونة تنتظر بزوغ الضوء
"يدي .. يدي، وين راحت يدي" هكذا صرخت مفزوعة بعد أن صحت من غيبوبتها تبحث عن يدها المبتورة نتيجة سقوط قذيفة هاون أطلقتها مليشيا اﻹنقلاب بشكل عشوائي على حي "الضبوعة"، أحد أحياء مدينة تعز.
ملاك ذات السبعة أعوام اسم على مسمى، لم تكن سوى ملاك صغير يرسم يمارس هوايته المحببة باللعب أمام منزلهم المتواضع لم تكن تكترث بالحرب وأصوات الانفجارات التي تصب جام غضبها على مدينتها؛ لأن الأمر صار تكرارا يوميا استحالت فيه تلك القذائف إلى واقع معاش تنام وتستيقظ كما الكثيرين من أصدقائها وأطفال مدينتها على أصواتها المدوية التي صارت بنظرهم كأنها مجرد ألعاب نارية في يوم عيد.
دخلت ملاك غرفة العمليات وبعد بضع ساعات خرجت واستيقظت على دموع أباها وهو يبكي لأجلها فالتفتت إليه قائلة " لا تبكي يا بابا يدي ستنبت مرة أخرى كما تنبت أسناني " فأندهش أبوها لذلك الأمل الذي جعله في لحظة ما يقف على قدميه راسخا كرسوخ شجرة الغريب ليشعر بحقيقة انتمائه لهذه الأرض ولهذه المدينة التي قدمت كل التضحيات لأجل الحياة والعيش بكرامة.
ستنبت يد ملاك حلما وضوء نارا ونورا لتحمل للعالم رسالتها باسم كل أطفال مدينتها لتري العالم بشاعة مسيرة الموت والدمار المسيرة الشيطانية التي عرجت على مدينتها ذات يوم.
شريف طفل الجنة
" يا الله لا تفجعني بولدي" هكذا يردد الأباء والأمهات بشكل يومي ، فكلما هزت القذائف شبابيك المنزل أو بلا مبالاة سقطت على الطرقات المزدحمة بالمدنيين. هرع الجميع لتكرار هذا الدعاء بعيون وجلة ومترقبة وقلب يخفق بقوة ينتظر ماذا سيصيب أهله.
هكذا دوت صرخة أم شريف لتضرب الرعب بقلوب ساكني مدينة النور حينما اخترقت رصاصة قناص المليشيا جمجمة وليدها ذو الخمس سنوات. فلم يرحم هذا القناص سنين عمرها التي دامت عشراً في انتظار مجيء طفلها.
شريف ذلك الطفل الذي أسر القلوب بضحكته وعفويته، قبل كثيراً أباه وأمه في ذلك اليوم ـ وكأنه مكان يدرك أنه الوداع الأخيرـ مرتجيا أن يسمحا له باللعب خارج المنزل، تجمع الأطفال وظل شريف يلزم حضن أخته ذات ال 12 ربيعاً يراقبهم من بعيد، بحركة عفوية. صرخ جميع الأطفال صوت رصاصة وأغمضوا العيون، لكنها لم تغمض عينيها عن شريف وانتهكت طفولته المبكرة وسكبت دمه على قميص أخته التي لم تستوعب حتى اللحظة ما الذي حدث؟
وصعدت روح شريف للجنة في انتظار يوما لا يظلم فيه أحد لكن صورته وضحكته لم تغادر والديه ولا كل من رآه ذات يوم بابتسامته الطفولية التي كانت ترسم المكان والزمان .
يونس رسول الماء
يونس الطفل التعزي ذو ال 12 ربيعاً، فقد يونس اباه ذات يوم بسبب "شحة الماء" لكن ذلك لم يمنعه عن تقديم المساعدة لأهل الحي والمسارعة بفتح خزان الماء لتبدأ المعاناة اليومية التي فرضتها مليشيات الحوثي على مدينة تعز منذ اجتياحها.
يونس الطفل الذي اكتوى بنار الحرب وقذيفة غادرة صادرت حقه في الحركة ليصحو بعد غيبوبة لأيام على فقدان قدميه نتيجة قذيفة حوثية اغتالت اقدامه التي كانت تذرع الشارع بحثا عن الماء في مدينة كان الماء قضيتها الأهم منذ ثمانينات القرن الماضي في ظل استهداف من نظام الرئيس المخلوع صالح والذي يمتد حقده حتى اللحظة في حصار عبثي منذ أكثر من سنتين واستهداف ترسانته العسكرية للأبرياء والمدينيين في مدينة الحب والسلام والتعايش تعز.
قال والدموع تترقرق من عينيه " أنا إلا قلت بعمل خير" نزل دمع عينيه حاراً، بعينه الوحيدة وهو يتحسس عينه الأخرى التي أطفأ نورها شظية القذيفة .
فقد يونس قدميه ويده وعينه لكنه سيبقى حكاية تحدي تروي للأجيال القادمة حقد المسيرة القرآنية القادمة من كهوف مران ، سلبوا منه الحركة لكن لم يتسطيعوا أن يسلبوا روحه المضيئة في وجه الظلام .
فريد .. وجع العيد
فريد الطفل التعزي أيضا هو الآخر كان أحد ضحايا الحرب الظالمة على مدينته من قبل قوى الانقلاب ،فقد أعتاد فريد ألا ينام ليلة كل عيد وعادة ما يصحو منذ أذان الفجر الأول هو وبعض الأطفال بالقيام بمهمة إيقاظ أهل الحي كي لا تفوتهم صلاة العيد.
لكن عيد الفطر لهذا العام شكل لفريد لفريد ألماً مختلفاً، فمع سماع تكبيرات العيد الأولى تبدلت بسمته إلى صراخ ونواح ودموع كان من الصعب على أمه تهدئته كيف لا؟ وهي التي ما فتأت تتذكر القذيفة التي قتلت ابنتها أمام عينيها منذ سنة أيضا ليتكرر وجعها في فلذة كبدها فريد ليضاف إلى جراحها جرح جديد.
يبكي فريد ألما فيتألم كل الحاضرين ، فكيف لا تؤلمك صرخاته وهو رغم الشظية التي اخترقت عينه اليمنى ومزقت رجله اليسرى وأقعدته أرضاً، لم ترحمه وأدخلته بغيبوبة ساعتها بل جعلته يكبر ألف عامٍ حينما ظل يشاهد كيف قتلت القذيفة أصدقائه بطريقة بشعة لتجعل أحلام الطفولة البريئة تتبدل إلى كوابيس توقظ منامه إلى آخر يوم من عمره وظل يرقب المشهد بعين واحدة ورجل واحدة لا يستطيع الحركة ليغرق في غيبوبته فيصحو على وجع رحيل أصدقائه .
العيد القادم لن يتوقف فريد عن أحلامه في ايقاظ سكان الحي لأداء الصلاة لكنه يأمل أن يكون العيد القادم هو عيد الانتصار .