في حوار مع المستقبل أونلاين

الشاعر والناقد والروائي علوان مهدي الجيلاني :"قصيدة الغياب" أكثر النصوص تعبيراً عن تجربة الحرب برمتها

الشاعر والناقد والروائي علوان مهدي الجيلاني؛ مثقف موسوعي ومتعدد الانشغالات الإبداعية والثقافية وصلت كتبه المتنوعة بين شعر ونقد ورواية وتحقيق واساطير شعبية الى قرابه العشرين كتاب ولقد التقينا هذا الولد الناسي كما يسميه زملائه المبدعين وكان لنا معه هذا الحوار :

-من هو علوان مهدي الجيلاني الانسان؟

-واحد من الناس، رب أسرة يحلم بلقمة عيش كريمة، لكنه إنسان متورط في الوعي بنفسه وبالعالم من حوله، إنسان يعرف ويشقى بما يعرف، ثم يدفع ثمن ذلك أوجاعاً كثيرة.

-هل كان للحديدة وريفها وطبيعتها الخلابة وطيبة أهلها في تكوين عالم علوان الجيلاني؟ واتجاهه للأدب والشعر؟

-قبل سنتين نشرت فصول روايتي "معلامة" على صفحتي في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وكانت تحظى بمتابعة تفوق ما توقعته، رواية "معلامة" التي سترى النور قريباً بين دفتي كتاب، تسرد على مدار 333 صفحة، الإجابة على سؤلك، إنها سردية، تتعلق بطفولتي، أبي وأمي وسائر أقاربي، ومدرسيّ، تجارب الطفولة، وحضور طبيعة الريف، حالة التماهي بيننا وبين جيراننا في الوجود من حيوان وطير وشجر، طبائع الناس، والنسق الاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه، الحوادث والمعارف والطقوس الدينية والابداعات والفنون والمشاهدات التي شكلت وعيي في سنوات عمري الأولى، وكيف كان على كل تلك المكونات والمُؤسسات أن تقودني إلى شغف القراءة أولاً، ثم إلى اكتشاف موهبة الكتابة ثانياً. لقد كانت تلك المكونات فاعلاً قوياً في ما كنته بعد ذلك.

-لديك موضوع تجريبي مزجت فيه بين الشعر والتشكيل، حدثنا عن هذه التجربة؟

-كان الأمر يتعلق بالشغف، حين ترتفع وتيرة الانصهار بما تبدعه من نصوص، وحين تشعر بقوة نجاح نص ما وفاعليته المؤثرة في المحيطين بك، وتحس أنك تنبهر بما تفعله قبل أن تبهر الآخرين به، يحدث ذلك.

 كانت قصيدتي " غناء في مقام البعد" قد تحولت إلى حالة حضور باذخ منذ كتبتها في آخر ليلة من عام 1995م، معظم أصدقائي الشعراء ومتذوقي الشعر حفظوها. وصار ذلك البيت:

أنا المعنّى بترتيب الفضاء لمن  غابت وشباكها في القلب مفتوح

أيقونة تتردد على الألسنة دون توقف، بمرور الوقت كان حضور القصيدة يتأكد أكثر فأكثر، أما حضور البيت السالف ذكره، فقد صار علامة عليّ.

أحيانا يتراكب الشغف على بعضه، كنت أعيش حالة توهج شعري غير عادي، ثمة نصوص تنكتب عمودية، ونصوص تنكتب تفعيلية، وأخرى نثرية، وكنت أستجيب في كل الحالات بشكل جنوني، هذه القصيدة العمودية التي صارت علامة عليّ تتجاور مع قصيدة "إشراقات الولد الناسي" التي غيرتْ اسمي، لسنوات طويلة كان زملائي يتحدثون دون ذكر اسمي، يكتفون ب"الولد الناسي" كدال علي، قصيدة "إشراقات الولد الناسي" قصيدة نثرية، وبعدهما كتبت "الوردة تفتح سرتها" التي اشتهرت أكثر من سابقتيها حتى، والغريب أن أسماء القصائد الثلاث صارت أسماءً لثلاثة من دواويني، كثرة الاحتفاءات بالقصائد الثلاث، والدواوين التي تحمل أسماءها، وكثرة ما كتب عنها، ومن تأثير التجربة بمجموعها على العديد من شعراء جيلي، الذين طالما عبروا عن شغفهم بها. جعل التجربة تتحول إلى هوس، كنت وقتها أخوض تجربة " كتاب الجنة" وهو كتاب فيه اشتغال كبير بالشكل، الشكل ككتابة، والشكل كإخراج. في هذه الأجواء قررت خوض تجربة اللوحة التشكيلية التي تشير إليها في سؤالك، حيث ينكتب كل بيت من قصيدة " غناء في مقام البعد" بشكل دائري، يُشِعُّ للداخل وللخارج، الاشعاع يخرج من كل كلمة في اتجاهين متضادين، جملة شعرية تفعيلية الكلمة الأولى منها لفظة من البيت، تقابها جملة شعرية نثرية الكلمة الأولى منها نفس اللفظة تلك. في نفس الوقت مجموع الجمل الشعرية التفعيلية تشكل نصاً مستقلاً، شكلت الفاظ البيت العمودي منصات انطلاق كل شطر فيه، ومجموع الجمل الشعرية النثرية تشكل نصاً مستقلاً، شكلت الفظ البيت العمودي نفسه منصات انطلاق كل شطر فيه.

كنت أفكر أن أُخْرِجَ التجربة على شكل كتاب يتولى تنفيذه فنان تشكيلي على نفس المستوى من الشغف، لكن ظروفاً حالت دون ذلك، تذكيرك لي به اليوم يوقظ شرارته من جديد، أظن الآن أن إحياءه ممكن جداً.

-لديك العديد من الكتب حول التصوف والتراث والحكايات الشعبية والتحقيق، ما رأيك لو تطلع القارئ الكريم على هذه الكتب؟

-كل اشتغال من هذه الاشتغالات يشكل هماً كبيراً، بمقدار ما يشكل حالة شغف، هو يشكل هماً كبيراً، كونه اشتغالاً في مناطق يطالها خطر التلاشي والاندثار، تتعرض لاستهدافات لا تتوقف، تبدل الزمن وما تحدث فيه من تغيرات تستهدفها، التيارات المعادية تستهدفها، غياب المؤسسات التي تتصدى للحفاظ عليها يمثل فجوة خطيرة، فكان الاشتغال عليها بدافع الخوف عليها، محاولة التذكير بها، الحرص على عدم ضياعها، وقبل ذلك شدة الارتباط بها كإرث ثقافي وحضاري، وقوة الوعي بها كهوية، أما كون الاشتغال عليها شغفاً، فذلك لما أكتشفه فيها من كنوز إبداعية، ومن أشياء دالة على ثراء مفرداتها، وخصوصية تمثلها للحياة في تجلياتها المختلفة، كان اشتغالي عليها يمثل حالة عشق غير عادية، تتخللها نوبات من نوستالجيا الحنين، كما تتخللها أوجاع لا حصر لها تتعلق بكون ما ضاع منها أكثر مما بقي. في هذا السياق أنجزت في الجانب الشفاهي مجموعة أعمال مثل " ارتجال الوجود"، بكير شاعر تهامة الأسطوري"، سود معمى أو الغناء بضمير الجماعة"، " امناجي ثواب وكوميديا الألم". وأنجزت في مجال التصوف " شمس الشموس أبو الغيث بن جميل"، " موجة خارج البحر"  "بنو حشيبر.. إرث العلم وبذخ الولاية"، "سلطان العارفين الجبرتي" ، " أخطاء القراءة" و " السماع الصوفي في اليمن" أما في مجال التحقيق فقد شملت اشتغالاتي " ديوان الحضراني"، " ديوان الشيخ عبد الرحمن بكيرة" – بالاشتراك مع الأديب أحمد حسن يعقوب- " منثور الحكم للعارف بالله محمد بن عمر حشيبر" و "ديوان العفيف بن جعفر" وغيرها مما لا يزال قيد الإنجاز. والحقيقة أن إنجاز هذه الاشتغالات حكاية كبيرة، لكن طباعتها وإخراجها إلى النور حكاية أكبر. مع الأسف الشديد.

-تحدثت في آخر حوار لك مع عبد الرحمن السماوي، على أن الصدفة هي من قادتك إلى كتابة روايتك الكبيرة عن الموسيقار الكبير ناجي القدسي. فكيف حدث هذا؟

- أفضل أن تكون الإجابة هذا المجتزأ من الرواية نفسها " ذات يوم من عام 2010 جمعتنا بالموسيقار ناجي القدسي عزومة في بيت أخته سعاد، كانت تسكن الطابق الذي يعلو مكتبي، أخبرنا عن رحلته الأخيرة إلى السودان، وجلسنا معاً الموسيقار العظيم وأنا، وسكرتارية مكتبي المكونة من أخي مهدي وصديقي أحمد الأهدل. تحدثنا عن فنه وعن الساقية.

أهديت له كتبي الثلاثة الصادرة للتو: (أصوات متجاورة ) وهو كتاب ضخم، يؤرخ لأبناء جيلي شعراء التسعينيات في اليمن، يرصد تبازغاتهم الأولى، وتلاحق موجاتهم، وتنوع تجاربهم، ويشير إلى مفاصل اختلافهم عمن سبقهم، ثم (قمر في الظل ) وهو كتاب يلقي الضوء على عشرين شخصية، شكلت تجاربها في الشعر والفن والنقد والفكر والتنوير، بصمات مهمة في المشهد الثقافي اليمني، من ثلاثينيات القرن العشرين إلى إطلالة القرن الواحد والعشرين، وأخيراً ديوان الشيخ عبد الرحمن بكيرة أحد أساطين السماع الصوفي في اليمن، حققته بالاشتراك مع صديقي الباحث أحمد حسن عياش يعقوب.

فرح بالكتب فرح قارئ حقيقي، أعجبه العنوان (قمر في الظل)، قلت له: الكتاب يتضمن مجموعة من الأسماء التي وقع عليها الظلم، هُمّشت ولم تأخذ حقها، أكثرها شخصية الشاعر والتربوي صالح عباس، كتبت عنه تحت عنوان (قمر في الظل)، وأحببت أن يحمل الكتاب كله هذا العنوان تكريماً له.

زاد إعجابه بالكتاب: والله ناحية الإنصاف دي ناحية مهمة جداً.

ثم أردف وقد اتشح صوته بنبرة حزن قاتلة: لا أسوأ من أن تكون مبدعاً حقيقياً، وتعيش مظلوماً يأكلك التهميش والنسيان.

التقت نظراتي بنظرات أخي مهدي، ودار الحديث لنصل إلى  رحلته الأخيرة إلى السودان، مد يده وراء المجلس، وأخرج مجموعة أعداد من صحف سودانية، كان بينها (الأحداث) و(السوداني )، تصفحت صوره فيها دون أن أقرأ، كنت أتهيأ للمغادرة بسبب ارتباطي بموعد في مقيل أحد الأصدقاء.

حين عدت إلى المكتب بعد المغرب، قابلني مهدي بابتسامة أسف: تعرف يا علوان (قمر في الظل)، كان يجب أن يكون عنوان كتابك عن الموسيقار ناجي القدسي.

قلت متفاجئاً:

-ها ؟

فأردف:

-أنا أستغرب لك، كيف تعرف مبدعاً مثل ناجي كل هذه السنين، ولم تكتب عنه بعد، تعال اجلس بجانبي واقرأ قليلاً.

كان مهدي بعد أن غادرت إلى موعدي، قد شارك الموسيقار العظيم قراءة ما كتب عنه في الصحف السودانية، ثم عاد إلى المكتب ليبحث عنه في الشبكة العنكبوتية، وقد هاله كمُّ الشجن والحنين اللذين يسطر بهما السودانيون تقديرهم له، وأساهم لغيابه، وحزنهم، أو غصتهم من شحة المعلومات المتعلقة به.

جلسنا حوالي الساعتين، نتنقل بين المواقع الإلكترونية السوادنية، شعرت بهزيمة ماحقة أمام مهدي، وفي طريقي إلى البيت، كنت أشعر بأن عدم التقاطي لمبدع بهذا الحجم، يمثل نقصاً كبيراً في إنسانيتي، قبل تجربتي الأدبية.

 فاتحت زوجتي بالأمر فقالت: خليك بعيد عن ناجي، إخوانه وأخواته يتحفظون تجاه أي حوار معه، يخافون أن يقول أشياء لا تعجبهم.

تتابعت الأيام، أصيبت الحياة في صنعاء بالشلل التام، توقف العمل في مكتبي بسبب انقطاع الكهرباء، والقصف المتبادل بين أطراف الصراع. فارقني أحمد الأهدل وعاد مهدي إلى الجيلانية ليتزوج. انشغلت بأمور كثيرة، وانتقلت أخته سعاد من الطابق الذي يعلو مكتبي في شارع القيادة، إلى شارع الدائري جوار الجامعة القديمة، ثم جمعني غداء بالموسيقار العظيم، كان ذلك عند أخته سعاد يوم عيد الأضحى الذي وافق يوم الجمعة 26 أكتوبر 2012م. بعد أن أجهزنا على (الشيّة) بمعية صهري أحمد (ابن أخته سعاد)، قلت له متردداً: تعرف يا أستاذ ناجي.. نفسي تفتح لي قلبك، أحب أن نخوض أنا وأنت اشتباكاً طويلاً مع تجربتك، هل هذا ممكن؟

أجاب بأريحية: جداً جداً يا أستاذ، أنا جاهز.

اتفقنا أن يكون مقيل قاتنا يوم غد في مكتبي، كان ثاني العيد يوم أضحيتي، والأسرة كلها ستجتمع على الغداء عندي، حين طرحت أمنيتي بين يديه، كان غرضي أن أحصل منه على ما يكفي ليكون فصلاً في كتاب قادم، كتاب على شاكلة كتابي (قمر في الظل). لم أكن أعرف أني سأغرق في بحر عبقريته، وأني لن أكتب عنه أجمل كتبي وأعمقها وأكثرها قرباً إلى نفسي فحسب، بل سأكتشف كنزاً لم يسبق لي أن حلمت بمثله، وسأجدني يوماً بعد يوم أزداد تعلقاً به، تشغفني عوالمه، وتبهرني عبقريته وفلسفته و ثقافته المدهشة.

لم أكن أتصور أني سأتحول إلى أسير لسحر عوالمه ووجعها، جمال السرد، دقة الوصف، التدفق والحيوية، اللغة الراقية، براعة الدخول إلى الوقائع والخروج منها. لم يفتح لي القدسي خزائنه وحدها، بل فتح لي دنيا السودان كلها، اكتشفت معه أسرار المشهد الفني والثقافي السوداني. بشكل لم يكن ليخطر لي من قبل على بال. علمني كيف أكسر حاجز السلم الخماسي، السلم الموسيقي الذي طالما اتخذناه مبرراً، لتجاهل ذلك العالم الواسع من الفن، العابق بالجمال والثراء والتنوع. تعرفت على عشرات الفنانين والشعراء، فتح لي أسرار الموسيقا السودانية، وأرشدني إلى جمالياتها المذهلة، أوقفني على تاريخها، وأهم مفاصل تطورها، وعلى أجمل ما قدمته من نماذج .

بعد أربعة وثلاثين يوماً، كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً، حين ودعت الموسيقار ناجي القدسي، وهو يغادر مكتبي متجهاً إلى بيته وكتبت: (الساعة الآن العاشرة ودقيقة واحدة، أنهيت قبل قليل رحلة أربع وثلاثين جلسة توثيق متوالية، امتدت من 27 أكتوبر حتى الليلة، بمثابرة لا تتوقف، أشعر أني عشت حياة الموسيقار العبقري ناجي القدسي كلها، طفولته وصباه، عبقريته وهي تتفتح وتجتاح، نجاحاته المذهلة، وانكساراته القاتلة، ضحكنا وبكينا، فزنا وفشلنا، جعنا وتشردنا، وتعرضنا لقسوة الظروف، لوجع الظلم وقسوة الزمان والناس"

 

- لماذا هاجر علوان الجيلاني إلى السعودية؟ حدثنا عن تجربتك هذه؟

- أظن أني لم أهاجر إلى السعودية، لقد مررت بها أريد مكاناً آخر، لكنني علقت لبعض الوقت، قبل أنتقل إلى مصر، كان علي أن أمر بتجربة مريرة، عبّرتْ عنها "قصيدة الغياب" هل قرأتها، لعلها أكثر النصوص تعبيراً عن تجربة الحرب برمتها، أنت من خلال هذا السؤال تفتح في قلبي جرحاً كنت أود نسيانه، أو على الأقل تجاهله. لذلك سأكمل الإجابة بمجتزأ من القصيدة نفسها:

يا الله سأكذب بقية عمري وأنا أنكر ضلالي حين غادرت

سأكذب بعدد دقات القلب

بعدد الأيام التي لا بكارة فيها ولا دهشة

بعدد المرات التي التقمني فيها الحوت وبت في أحشائه

بعدد الساعات التي انتظرت فيها من يحملني إلى لقمة ذليلة

بعدد الفلاشات التي حاولت أن تقتنصني في شوارع المدينة العجفاء

بعدد الشعر الذي حاول الأغبياء أن يزرعوه في لحيتي

سأنتقص مني مقابل كل نميمة تطاولت علي

وكل حرف كتبه المخبرون عني

سأعذبني حتى يستحيل دمي ضوءً يبدد عتمة الغائبين

 

**

لم أكن أعرف أنني خطوت في الفراغ

وأنني سأتلفت طويلاً كأرنب في برية جرداء

هكذا كانت الضباع بانتظاري

وكانت الثعالب أيضاً والوهدات

كنت وأطفالي طرائد سهلة للعراء

كنت أباً تافهاً وأنا أقود عائلتي للبوار

نذهب إلى الآخر بلا روافع

الآخر ليس دماً ولحماً ..

 انتفاخ ميت فحسب

انتفاخ يقتل الحواس ..

يتحسس العنب بالصواريخ

يقرأ المدرجات بأنياب دراكولا

يبذر الحقد في شواطئ لم تعرف غير أغاني الصيادين

انتفاخ ميت فحسب

أدنو منه فأجده مطروحاً بلا عيون

لا مناصف فيه ولا رمان 

لا أولياء ولا نايات

انتفاخ ميت فحسب

يلبس التاريخ بالمقلوب ولديه فكرة سيئة عن كل شيىء

 

-يتهم الكثير من الأدباء والكتاب النقد في اليمن، بأنه شللي ومجامل، ماذا ترد على هذا القول؟

سأتحدث عن هذا الأمر من ثلاث زوايا:

الأولى: أن فيه قدراً من الصحة، لكن إطلاق التهمة على النقد كله تصبح ضرباً من المبالغة، يجدر بنا في هذا السياق أن نتحدث، عن غياب للنقد أو قلة النقد قياساً بما يتم إنجازه من إبداع في الشعر وفي السرد بأنواعه- مثلاً- النقد يحتاج إلى استعدادات أكثر بكثير من الابداع، يحتاج إلى آلة معرفية، يحتاج إلى ذائقة مميزة، يحتاج إلى شغف وعشق كبيرين، وقبل ذلك يحتاج إلى صبر ودأب ومثابرة وقدرة على المتابعة والملاحقة، ويحتاج إلى شعور الناقد نفسه أنه صاحب مشروع. كما يحتاج أكثر من غيره من الاجتراحات الكتابية إلى استقرار معيشي واجتماعي ونفسي. وهي عوامل كما ترى قل أن تتوفر في الناقد وقل أن تتوفر له.

الثانية: كي يزدهر النقد يجب أن يتحول إلى حالة عامة، إلى روح يشيع التلبّس بها في المشهد كله، على غرار ما تعرفه عن هوجة التبشير بقصيدة النثر، وتكاتف عشرات الأقلام من أجل كتابتها والترويج لها، وعلى غرار ما تراه من هوجة ركوب موجة الكتابة الروائية، والشعور الطاغي بكونها سيدة الأجناس الكتابية الآن. وهذا لم يتو فر للنقد بعد. ولو حدث هذا فإن حالة الشغف والكثرة ستفرز كتّاباً يتناولون كل شيئ، وستختفي تهمة الشللية والمجاملة.

الثالثة: زواية شخصية، تتعلق بي شخصياً، أصدرت حتى الآن أربعة كتب هي " أصوات متجاورة"، " قمر في الظل"، "ملامتية"، " مفاتيح الأدراج" وهناك كتب أخرى بين جاهز تماما أو يتم وضع اللمسات الأخيرة له، وهي في اشتغالاتها تتوزع على الشعر والسرد والفكر والفن، وتتناول أجيالاً تلاحقت منذ عشرينيات القرن العشرين، وحتى اليوم. مع ذلك لم أفكر قط أن أكتب مجاملة لفلان، أو تعصباً لشلة معينة، وها أنذا أكتب ردي على أسئلتك بعد ربع ساعة من كتابة آخر سطر في كتابي الجديد " زمن المقالح عبد الكريم" وسوف يهولك مقدار نواحي في الكتاب بسبب أني أنجزت كل تلك الكتب في دراسة ونقد المشهد الادبي اليمني والاحتفاء به، دون أن أتناول أكثر الأصدقاء قرباً مني، وقد رحل دون أن يقرأ سطراً منشوراً لي عنه. الحقيقة يا صديقي أن المشهد أوسع كثيراً من أن تستوعبه كتابات النقاد القليلين، ناهيك أن معظم هؤلاء النقاد يكتبون بدافع الحماس والشغف فيما ينشغلون إما بمشاريع كتابية أخرى، وإما بمعوقات أسرية ومعيشية تحول بينهم وبين التفرغ للنقد.

أضيف إلى ما سبق أن النقد لم يتوطن بعد كاشتغال مستقل في المشهد الادبي الثقافي اليمني.

- ما هو جديد الأديب الناقد علوان الجيلاني؟

-جديدي رواية " معلامة" و" زمن المقالح عبد الكريم" وهناك أعمال أخرى أريد أن يكون ظهورها مفاجأة للجميع. لعل فيها مفاجأة لك أنت شخصياً

- كلمة أخيرة تود قولها.

أشكرك وأعتز بك مبدعاً وإنساناً

 

 

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص